نسبه وموطنه:
هو أبو الفتح، عثمان بن جِنّي الموصلي النحوي اللغوي، من أحذق أهل
الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، وصاحب التصانيف الفائقة المتداولة في
اللغة.
ولم تذكر المصادر التاريخية وكتب التراجم نسبا له بعد جني؛ إذ أن أباه
(جني) كان عبدا روميا مملوكا لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي، ولم
يُعرف عنه شيء قبل مجيئه الموصل، وإلى هذا أشار ابن جني نفسه بقوله في جملة
أبيات:
فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي
عـلى أني أؤول إلى ... قرومٍ سـادة نجـب
قيـاصرة إذا نطقوا ... أرَمّ الدهـر ذو الخطب
أولاك دعا النبـي لهم ... كفى شرفاً دعاء نبي
وكانت ولادة ابن جني بالموصل، وفيها قضى طفولته وتلقى دروسه الأولى، وذكرت
المصادر التي ترجمت له أنه ولد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة، فلم تحدد سنة
مولده غير ما جاء بلفظ "وقيل:" مولده سنة ثلاث وثلاثمائة، وإذا كانت أغلب
المصادر التاريخية على أنه توفي - كما سيأتي - سنة اثنتين وتسعين
وثلاثمائة، وكان آنذاك في السبعين من عمره - على قول ابن قاضي شهبة في
طبقات النحاة، والذهبي في تاريخه وفي العبر - فإن ولادته تكون في سنة
اثنتين وعشرين أو إحدى وعشرين وثلاثمائة من الهجرة.
وقد أقام ابن جني بعد الموصل ببغداد، وظل يدرس بها العلم إلى أن توفي،
وكان له من الولد: علي وعالٍ وعلاء، وكلهم أدباء فضلاء، قد خرجهم والدهم
وحسن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط وحسني الخط، بحسب تعبير ياقوت.
شيوخه وتلاميذه:
ذكر ياقوت في معجمه أن ابن جني صحب أبا علي الفارسي أربعين سنة، وكان
السبب في صحبته له أن أبا علي اجتاز بالموصل فمر بالجامع وابن جني في حلقةٍ
يُقرئ النحو وهو شاب (قيل إن عمره كان سبع عشرة سنة)، فسأله أبو علي
الفارسي عن مسألةٍ في التصريف فقصر فيها ابن جني، فقال له أبو علي: زببت
وأنت حِصرِم، فسأل عنه فقيل له: هذا أبو عليٍ الفارسي، فلزمه من يومئذٍ
وسافر معه وسكن بغداد، واعتنى بالتصريف، قال ياقوت: "فما أحد أعلم منه به
ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه".
ولما مات أبو علي الفارسي تصدر أبو الفتح ابن جني في مجلسه ببغداد - وكان
قد صنف في حياته - وأقرأ بها الأدب، وقد أخذ عنه الثمانيني، وعبد السلام
البصري، وأبو الحسن السمسمي، وقام أيضا بالتدريس لأبناء أخي الحاكم
البويهي.
هذا وقد كان لابن جني علاقة خاصة بأبي الطيب المتنبي، فقد صحبه دهراً
طويلاً، وقرأ عليه ديوانه ثم شرحه بعد ذلك ونبه على معانيه وإعرابه، قال
ابن خلكان: "ورأيت في شرحه قال: سأل شخص أبا الطيب المتنبي عن قوله:
بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا ... فقال: كيف أثبت الألف في "تصبرا " مع وجود
لم الجازمة، وكان من حقه أن يقول "لم تصبر"؟ فقال المتنبي: لو كان أبو
الفتح هاهنا لأجابك، يعنيني، وهذه الألف هي بدل من نون التأكيد الخفيفة،
كان في الأصل "لم تصبرن" ونون التأكيد الخفيفة إذا وقف الإنسان عليها أبدل
منها ألفاً، قال الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا ... وكان الأصل فاعبدن فلما وقف أتى بالألف
بدلاً". فكان المتنبي يحترم ابن جني كثيرا ويجله ويقدره، وكان يقول عنه:
"هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس"، ولتمكّن ابن جني من شعر أبي الطيب
قال عنه أبو الطيب: "ابن جني أعرف بشعري".
ويبدو أنه كانت لابن جني رحلات إلى بلاد كثيرة في طلب العلم ومشافهة
العلماء والشيوخ، والدليل على ذلك تلك الإجازة التي ذكرها ياقوت في ترجمته
في معجمه، والتي جاء فيها: "... فليرو - أدام الله عزه - ذلك عني أجمع إذا
أصبح عنده وأنس بتثقيفه وتسديده، وما صح عنده - أيده الله - من جميع
رواياتي مما سمعته من شيوخي - رحمهم الله - وقرأته عليهم بالعراق
والموصل والشام، وغير هذه البلاد التي أتيتها وأقمت بها مباركاً له فيه
منفوعاً به بإذن الله..".
ابن جني النحوي الصرفي:
كان ابن جني - كما ذكرنا - من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو
والتصريف، إلا أن علمه بالصرف كان أقوى وأكمل من علمه بالنحو، بل لم يكن في
شيءٍ من علومه أكمل منه في التصريف، ولم يتكلم أحد - كما قال ياقوت - في
التصريف أدق كلاماً منه.
وكان السبب في ذلك تلك القصة التي أوردناها سابقا، والتي قال له فيها شيخه
أبي علي الفارسي حين سأله عن مسألة في التصريف فقصر فيها ولم يستطع
الإجابة عنها: "زببت وأنت حِصرِم"، فمن يومئذ - وكان حينها في مقتبل شبابه -
لزم نفسه شيخه هذا مدة أربعين سنة، وقد اعتنى بالتصريف أحسن ما يكون
الاعتناء، حتى إنه لما مات شيخه أبي علي تصدر هو (ابن جني) مكانه ببغداد.
وأسوة بأستاذه فقد كان ابن جني بصريا، يجري في كتبه ومباحثه على أصول
المدرسة البصرية، ولا يألو جهدا في الدفاع عنها، على أنه كان يأخذ العلم
أيا كان مصدره، وبغض النظر عن مذهب أهله، ولهذا نجده - كما يقول الدكتور
رحاب خضر - كثير النقل عن ثعلب والكسائي وأمثالهما، وهو حين يذكرهما في
كتبه يثني عليهما، فيقول مثلا: "باب في قلب لفظ إلى لفظ بالصنعة والتلطف لا
بالإقدام والتعجرف"، وكان هذا الرجل كبيرا في السداد والثقة عند أصحابنا"،
يعني الكسائي.
وقد يأخذ برأي البغداديين، والمدرسة البغدادية وسط بين المدرستين البصرية
والكوفية، يقول في الخصائص: "ووجه ما ذكرناه من ملالتها الإطالة - مع
مجيئها بها للضرورة الداعية إليها - أنهم أكدوا فقالوا: أجمعون أكتعون
أبصعون أبتعون.."، ويقول الرضيّ في شرح الكافية: "وأما أكتع وأخواته
البصريون - على ما حكى الأندلسي عنهم - جعلوا النهاية أبصع ومتصرفاته،
والبغدادية جعلوا النهاية أبتع وأخواته...".
وإن من بعض آرائه النحوية - كما يقول الدكتور رحاب خضر - تجويزه إظهار
متعلق الظرف الواقع خبرا في الكون العام، نحو "زيد عندك"، قال ابن يعيش:
"وقد صرح ابن جني بجواز إظهاره".
وهو يُجيز أيضا أن يقال: مررت بزيد وعمرًا، بعطف عمرًا على محل زيد
المجرور بالحرف، وهذا لا يُجيزه النحويون؛ لأن شرط العطف على المحل عندهم
ظهور الإعراب المحلي في فصيح الكلام.
.